الجمعة 15 رمضان 1441 هـ

الموافق 8 مايو 2020 م

الحمد لله عظم حلمه فستر، وبسط يده بالعطاء فأكثر، سبحانه وبحمده أطاعه الطائعون فشكر، وتاب إليه المذنبون فغفر، نحمده سبحانه ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقام من الليل على قدمه الشريف حتى تفطر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المحشر.

أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، اتقوا الله وتقربوا إليه جل وعلا بصالح الأعمال وكثرة التوبة والاستغفار، فإن الله تعالى ـ وهو اللطيف الخبير ـ قد علم ما في الخلق من ضعف، وما هم عليه من قصور ونقص، قد يحملهم على ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي، ففتح لهم سبحانه باب الأمل والرجاء في العفو والمغفرة، وأمرهم أن يلجئوا إلى ساحات كرمه وخزائن فضله، فهو سبحانه رحيم بمن رجاه، قريب ممن دعاه، والخطأ والتقصير مما جبل عليه البشر، والسلامة من ذلك مما لا مطمع فيه لأحد، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ) وإن شأن الكمّل من أهل التقوى وأرباب الهدى أنهم إذا أذنبوا استغفروا، وإذا أخطئوا تابوا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) وإن من واسع فضل الله على العباد أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه تعالى يغفر الذنوب كلها، فعلى العبد أن لا يقنط من رحمة ربه وإن عظمت ذنوبه وكثرت آثامه، فقد قال عز وجل:(وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً) ولقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم -وهو أتقى الخلق- بإخلاص الدين وإدامة الاستغفار، فقال عز وجل: (فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ)، فكان ملازماً للاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، حتى قال عن نفسه) (وَاللَّهِ إِنِّي لاَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: (ربِّ اغفر لي وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم)  وهكذا يا عباد الله شأن أرباب العزائم وأهل الإيمان الخلّص، يلجئون إلى الله على الدوام، ويكثرون التوبة والاستغفار، صادقين مخلصين، غير يائسين ولا مصرين، قد ملأت خشية الله قلوبهم، ورسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة ربهم وشهود أعمالهم، (ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْمُنفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأسْحَارِ)، أولئك هم العارفون المتقون، يؤدون الفرائض، ويكثرون من الطاعات والنوافل، ثم يسارعون إلى الاستغفار خشية التقصير أو الإخلال فيما قدموا من صالح الأعمال، (كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِٱلأَسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ من تبليغ رسالة ربه وبلغ البلاغ المبين أمره ربه أن يكثر من الذكر والاستغفار فقال سبحانه: (إِذَا جَاء نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوٰجًا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا). وكان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من صلاته بادر إلى الاستغفار، وحجاج بيت الله الحرام مأمورون بالاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والمشعر الحرام، (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

عباد الله: إن من رحمة الله تعالى بنا ومزيد فضله علينا ما رتب على الاستغفار من عظيم الجزاء وسابغ الفضل والعطاء، فإن كثرة الاستغفار والتوبة من أسباب تنزل الرحمات الإلهية، والألطاف الربانية، والفلاح في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: (لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال عز وجل: (وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)

وإذا كثر الاستغفار في الأمة، وعم أفرادها، وصدر عن قلوب مطمئنة موقنة مخلصة، دفع الله به عن العباد والبلاد ضروباً من البلاء والنقم، وصرف عنها صنوفًاً من الرزايا والحروب والفتن والمحن، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنزل الله علي أمانين لأمتي: وهما قوله تعالى: (وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال: (فإذا مضيتُ تركتُ فيهم الاستغفار).

عباد الله: وإن من آثار الاستغفار أنه سبب لنزول الغيث المدرار، وحصول البركة في الأرزاق والثمار، وكثرة النسل والنماء، كما قال سبحانه حكاية عن نوح عليه السلام: (فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) والمستغفرون يمتعهم ربهم متاعًا حسنًا، فيهنئون بحياة طيبة، ويسبغ عليهم سبحانه مزيدا من فضله وإنعامه، (وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ).. وفي ملازمة الاستغفار تفريج الكرب والهموم، والمخرج من ضائقات الأمور، وحصول الرزق من حيث لا يحتسب العبد، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (منْ لَزِم الاسْتِغْفَار، جَعَلَ اللَّه لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ

مخْرجًا، ومنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ) فهذه ـ يا عباد الله ـ بعض فضائل الاستغفار ومنافعه، جلاّها لنا ربنا في كتابه، وأفصح عنها رسوله فيما صح من خبره، تحمل أهل الإيمان وأرباب التقوى على البدار بالتوبة وكثرة الاستغفار، غير أن هذه المنح الإلهية والفضائل الربانية إنما تحصل للمستغفرين الله تعالى حقًاً وصدقًاً، إذ الاستغفار ليس بأقوال ترددها الألسن وعبارات تكرر بين الحين والآخر فحسب، وإنما الاستغفار الحق ما تواطأ عليه القلب واللسان، وندم صاحبه على ما بدر منه من ذنوب وآثام، وعزم أن لا يعود على اقتراف شيء من ذلك، إذ هذه أركان التوبة النصوح التي أمر الله تعالى بها العباد، ووعد عليها تكفير الخطيئات والفوز بنعيم الجنات، فقال عز شأنه: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ). قال أهل العلم رحمهم الله: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، وليس التلفظ بمجرد اللسان، فمن استغفر بلسانه وقلبه مصرّ على معصيته فاستغفارُه يحتاج إلى استغفار)، وقال بعض العلماء: (من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه). وتذكروا رحمكم الله  أنه لن يخرج أحد من هذه الحياة الدنيا حتى يرى الحسن من عمله والسيئ منه، وإنما الأعمال بالخواتيم، وما الليل والنهار إلا مطيتان، فأحسنوا السير فيهما إلى الآخرة، ولتحذروا التسويف والتفريط، ولا تكونوا ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، فإن الآجال مغيبة، والموت يأتي بغتة، فلا يغترنّ أحدكم بحلم الله عز وجل؛ فإن الله يمهل ولا يهمل، وإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله…

وإن من نفاذ البصيرة وصدق الإيمان، كثرة التوبة والاستغفار على الدوام، فذلك هدي رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول أبو هريرة رضي الله عنه : ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم… وإن مما صح عنه عليه الصلاة والسلام من جوامع أدعية الاستغفار، ومما وجه الأمة إليه قوله: إِنَّ سَيِّدَ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، وَأَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ مُوقِناً بِهَا فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي مُوقِنًاً بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) وقال صلى الله عليه وسلم : (مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ) وفي الصحيحين أنه كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) وكان يقول أحياناً قبل التسليم: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) .. فحري بالعبد المؤمن أن يغنم خيرات هذا الشهر وبركاته وأن يلازم الإستغفار ويكثر منه ليغنم عوائده المباركة وفوائده الجليلة وهي كثيرة لا تحصى في الدنيا والآخرة… فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالتوبة، ولازموا الاستغفار، وتعرضوا لنفحات ربكم في الجهر والإسرار. وتذكروا أن في حوادث الزمان وفجائع الأيام ما يحمل أولي الألباب والنهى وذوي الإيمان والتقى على الاعتبار والادِّكار والعودة إلى الله الواحد القهار والاعتصام بهدي القرآن، واقتفاء هدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، والإقبال على طاعة الله ومرضاته، وكثرة التوبة والاستغفار، فإن ذلك من أعظم الأسباب لحلول الأمن في البلاد  وإضفاء الطمأنينة في نفوس العباد، وهو وحده الكفيل بحفظ أمة الإسلام في كافة بلادها ومختلف مجتمعاتها من كل ما تخشى وتحاذر، فأقبلوا على ربكم وأطيعوه، واستغفروه وتوبوا إليه، فقد قال عز شأنه: (قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنِـيبُواْ إِلَىٰ رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) وفي الأثر عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة) نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه. نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..

 

الخطبة الثانية

استثمار شهر رمضان

الحمد لله الذي جعل رمضان سيد الأيام والشهور، وضاعف فيه الحسنات والأجور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى والتقى والنور، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستثمروا أوقاتكم في الطاعات، وأدمنوا قراءة القران؛ ففيه صلاح القلوب، وانشراح الصدور، ونحن في شهر القران، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)

أيها الصائمون والصائمات: يعيش المسلمون هذا الشهر الكريم في هذا العام وقلوبهم تتقطع على مساجدهم وجوامعهم، يريدون لزومها وسماع القران من مآذنها. ومن اعتادوا المجاورة في الحرمين الشريفين، أو الاعتكاف فيهما يفقدون ذلك هذا العام، وفي قلوبهم من الشوق للرحاب الطاهرة ما لا يعلمه إلا الله تعالى، ولولا أن هذا الوباء حال بينهم وبين مكة والمدينة لعمروا الحرمين الشريفين، ولولا الوباء لأضاءت مساجد وجوامع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بصلاة التراويح والقيام ودروس الوعظ والإرشاد، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهذا من الابتلاء للمؤمنين في هذا الشهر الكريم، وهم مأجورون على ما يقع في قلوبهم من شوق لطاعات منعهم العذر منها؛ كالاجتماع في المساجد والجوامع لصلاة الجمع والجماعات والتراويح والقيام، وكذلك العمرة أو المجاورة في مكة والمدينة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَاماً مَا سِرْتُمْ مَسِيراً، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِياً إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) وقد حبس الوباء أو خوف العدوى به أكثر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عن العبادات الجماعية التي يجتمع لها، فكأنهم قد أدوها على ما اعتادوا؛ لأنه لولا الوباء لأدوها، وفي الحديث الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيماً صَحِيحاً). قال أهل العلم: وهو في حق من كان يعمل طاعة فمنع منها وكانت نيته -لولا المانع- أن يدوم عليها.. وهذه البشارة تزيل حزن وأسف كثير من المؤمنين على طاعات جماعية حافظوا عليها طيلة أعمارهم، ثم حرموا منها خلال الأسابيع التي مضت، حتى دخل عليهم شهر رمضان المبارك وهم محرومون منها، فأجورهم مكتوبة إن شاء الله تعالى، والكريم سبحانه يجزيهم بأعمالهم التي كانوا ينوون العمل بها لولا المنع منها بسبب الوباء،(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

عباد الله: إنه لا ينبغي لنا أن نقول: قد حل بنا ما يشغلنا عن شهرنا المبارك، بل الحق أن نقول: قد حل بنا ما يفرغنا له، وإنه لفرصة عظمى إبان بقاء الناس في دورهم وبيوتهم أن يحيوا شهرهم بالصلوات وقراءة القران، وذكر الله وعبادته؛ فإن من ظن أن الله لا يعبد إلا في المسجد والجامع وحسب، فقد فرط في جنب الله، وأساء الظن به، بل إن النوافل في البيوت لعظيمة الأجر بالغة الأثر، وإذا كان مقتضى الحال هو البقاء في الدور والبيوت فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فَأَيُّمَا امرئ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ) وقال صلى الله عليه وسلم:(اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُوراً)

اللهم اكشف الغمة عن هذه الأمة، وأصرف عنا هذا الوباء والبلاء، وأعد مساجد المسلمين عامرة بذكرك، اللهم ردنا إلى مساجدك وإليك رداً جميلاً، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، واجعلنا يا رحيم يا ودود من أهل الفردوس الأعلى. اللهم اجعل هذه الأيام تمر ولا تضر، اللهم أبعد عنا وعن بلادنا البحرين وبلاد المسلمين وبلاد العالم أجمعين، شر الأمراض والأوبئة، اللهم اصرف عنا هذا الوباء، وقنا شر الداء بلطفك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن والفتن، وسيء الأسقام والأمراض، ما ظهر منها وما بطن،عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا ذا الجلال والإكرام. اللهمَّ إنا نسألُكَ العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةِ، اللهمَّ إنا نسألُك العفوَ والعافيةَ في دِيننا ودُنيانا ووالدينا وأهلِنا وأولادنا  ومالِنا وولاةِ أمورِنا وذوي الحُقُوقِ علينا، اللهمَّ استُرْ عوراتنا وآمِنْ رُوعَاتِنا وأحفَظنا من بينِ أيديِنا ومن خلفِنا وعن أيمانِنا وعن شمائِلنا ومن فوقِنا ونعوذُ بعظمتِك أن نُغْتَالَ من تحتِنا يا سميع الدعاء.

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، وفي خليجنا ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً وارفع البلاء عنهم.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا واشف مرضانا، برحمتك يا أرحم الراحمين..

اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا ودعائنا وصالح أعمالنا، واغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.

الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ.

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

     خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين